الخرطوم: هنادي النور
عقب سقوط حكومة الرئيس البشير حقق السودان تقدماً كبيراً في ملف العلاقات الدولية برئاسة رئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك، إذ وافق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على المساعدة في تخفيف اعباء الديون من خلال مبادرة (الهيبك)، وكل هذه الإجراءات تبعتها بعض القرارات الاقتصادية القاسية، حيث تمت زيادة سعر الدولار الجمركي، وزيادة الضرائب والجبايات التي انعكست سلباً على كافة الاوضاع المعيشية، إضافة الى القرارات التي اتخذها الجيش بوضع رئيس مجلس الوزراء حمدوك قيد الإقامة الجبرية في ٢٥ اكتوبر من العام الماضي، الامر الذي فاقم الأزمة الاقتصادية، وجمد المجمتع الدولي معظم المساعدات التي كانت مخصصة لنهضة الاقتصاد.
ومازال المشهد السياسي عالقاً ومرهوناً لمصير الاوضاع الاقتصادية في البلاد، وتمسك القوى المدنية بضرورة عودة السلطة المدنية بينما العسكر يسيطرون على أرض الواقع بإحداث تغييرات على الصيعدين السياسي والاقتصادي، والالتزام بضرورة وجود حكومة كفاءات (تكنقراط).
ونجد ان الأزمة السياسية اثرت بشكل كبير على الوضع الاقتصادي وعزلته من المجتمع الدولي ومساعداته، لتتجه الحكومة الى الاعتماد على الموارد الذاتية، وبذلك تسير الإجراءات الاقتصادية في مسار طويل ومعقد في محاولة الاصلاح الاقتصادي وإنهاء العزلة.
(الخرطوم24) اجرت استطلاعاً موسعاً مع عدد من المهتمين بالشأن الاقتصادي حول عودة استئناف العلاقات الطبيعية مع المؤسسات المالية الدولية.
وقلل الخبراء من امكانية الايفاء بالوعود من قبل المؤسسات الدولية، ورهنوا ذلك باتفاق العسكر والقوى السياسية وتحقيق وفاق وطني شامل وخلق بيئة اقتصادية صحيحة. وبالتالي يمكن ان يخرج الاقتصاد من عنق الزجاجة، ووصف بعضهم حديث وزير المالية بالعقلاني.
بشريات
واكد وزير المالية د. جبريل ابراهيم ان الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تسيير بصورة جيدة، ان الحكومة بذلت جهداً في احداث اختراقات والتأكد من أن المؤسسات المالية الكبرى تعود لتمويل السودان ومعالجة الاوضاع الاقتصادية، واكد وجود استجابة الا انه قال: (بالتأكيد هذه المؤسسات مملوكة لجهات كبرى خارجية، وهذه الجهات ترى اذا لم يحدث تحول سياسي في البلاد من الصعب تقديم المساعدات والمعونات للسودان، وفي ذات الوقت عرج بالحديث عن حجم التطورات السياسية والاقتصادية بالبلاد نحو التحول المطلوب، كاشفاً عن اعلان تشكيل حكومة مدنية قبل نهاية العام.
تخفيف الضغوط
وذهب الخبير المصرفي د. لؤي عبد المنعم الى ان حديث وزير المالية جبريل ابراهيم لم يتطرق لمطلوبات البنك الدولي، وهي قطعاً تتصل بالاصلاحات الاقتصادية التي قطع فيها جبريل شوطاً كبيراً رغم آثارها السالبة على المواطنين والاقتصاد برمته، وإلى حد ما قد تتضمن إصلاحات في النظام القضائي لضمان حقوق المستثمرين، وهي غير مرتبطة بصورة مباشرة بالسياسة الداخلية، وان كانت الأخيرة مطالب ثابتة لدى الدول المانحة، والحرب الاوكرانية الروسية غيرت الكثير في سياسات الدول الكبرى وجعلتها أكثر تفهماً وقناعة بتخفيف الضغوط رغم انغماسهم في التواصل مع قوى محددة لضمان مصالحهم، مع تغير شكل النظام العالمي باتجاه نظام متعدد الاقطاب، والمراشقات بين السفير الروسي والامريكي في الخرطوم حول تصريحات الاخير دليل على أن هناك مساحة للنأي عن المحاور والتزام الحياد دون مواجهة ردود فعل مؤثرة من احد الاطراف التي تبحث عن مصالحها في السودان لانشغالهم بالحرب داخل أوروبا، وقطع لؤي في حديثه لـ (الخرطوم24) بأن البنك الدولي لن يمنح السودان اية قروض او الغاء للديون، ولو كانت لديه النية لفعل ذلك ايام تولي د. حمدوك رئاسة الوزراء.. لذلك لا نتوقع أن ينهض السودان الا بالاعتماد على الذات، وهذا يتطلب توحيد الجبهة الداخلية عبر المصالحة والتوافق على برنامج حد أدنى والانتقال سريعاً إلى الشرعية الدستورية عبر الانتخابات، لحسم كثير من الملفات المهمة والعالقة، وهذا يتطلب حسم قضية الترتيبات الامنية تمهيداً للدمج والتسريح بالشكل الذي يحافظ على مهنية وقومية القوات المسلحة.. ونأمل الا تتجه الأمور إلى الحالة الليبية على ضوء التسوية الثنائية الجارية حالياً التي تتناقض مع التصريحات المعلنة لمجلس السيادة.
إنجاز حقيقي
ومن جانبه قال الخبير الاقتصادي د. وائل فهمي إن حديث وزير المالية صحيح في ما يتعلق بشروط استئناف العلاقات مع مؤسسات بريتون وودز والمجتمع الدولي بالتأكيد، وقد تم بالفعل ارخاء التوقف بعض الشيء للعلاقات، وسيتم تدشينها ببعثات من هذه المؤسسات لتقييم الاوضاع الاقتصادية وتقديم مساعدات فنية.
ووعدوا بتقديم كل العون متى ما تشكلت الحكومة المدنية في نهاية العام الجاري.
واعتبر وائل خلال حديثه لـ (الخرطوم24) امس ذلك انجازاً حقيقياً في اعادة العلاقات الدولية للشعب السوداني الذي يستحقها وبندية كاملة ورغم اعدائها في الداخل في علاقاتهم مع الخارج الذي حرم منها لمصلحة من يريدون احتكار السوق السوداني وموارده للتصرف فيها كما يشاءون بما يحرم الشعب من خيراته الوفيرة باستمرار قطع هذه العلاقات كما حدث خلال الثلاثين عاماً الماضية.
وقال: (لكن تحتاج المفاوضات القادمة بشأن الاصلاحات الاقتصادية، خاصة ان مؤسسات بريتون وودز اصبحت مرنة بعض الشيء، بعدما رأوا وضع السودان الاقتصادي المزري رغم التطبيق الايجابي لوصفاتهم، الى ضرورة اشراك كافة اطراف العملية السياسية والاقتصادية بالبلاد حتى يتم تمكين الشعب المغلوب على امره ليخرج من نفق الفقر والمسغبة، وشدد وائل على ضرورة ان يكون هناك برنامج وطني خالص لضمان عدم تكرار مأساة د. حمدوك، د. البدوي، د. هبة وحتى د. جبريل، واثبتت تجربة تطبيق وصفات بريتون وودز فشلها وفرض تآكل القاعدة الانتاجية للاقتصاد وتعرض (١٨) مليون سوداني وسودانية لمخاطر المجاعة والاضطرابات السياسية والانفلات الامني بسبب التضخم الجامح، كما اكدته تقارير الامم المتحدة حديثاً.
فبدون برنامج وطني خالص تتوافق عليه كل الاطراف ويمكن من خلاله حماية شعبنا الاصيل هذا ودون الاخلال بشروط برنامج اعفاءات الديون الخارجية واعادة اعمار ما دمرته سياسات حمدوك الاقتصادية بحماية مجلس سيادي عسكري وليس بحماية مجلس شعب تمثل فيه كل القوى الفاعلة في هذه المرحلة، فلا يمكن توقع جديد للاوضاع او تحسينها. فلا بديل لحكومة مدنية ديمقراطية معبرة عن كل القوى الفاعلة في هذه المرحلة).
تناقض مصالح
وقال الناطق الرسمي لحزب البعث الاشتراكي مهندس عادل خلف الله ان وزير مالية الانقلاب فاقم أحوال السودان الاقتصادية والاجتماعية بسبب الأزمة السياسية التى شارك فيها سواء بالتحضير للانقلاب او بالمشاركة والتأييد، باعتبار أن الانقلاب هدف فى الاساس لحماية مصالح قوى التمكين ورأسماليته وما لازمه من فساد، وعبر عنها بعد الاستيلاء على السلطة بإبطال قرار لجنة ازالة التمكين واسترداد المال العام ومحاربة الفساد بالتزامن مع إعادة تمكين الوطنيين فلول الانقاذ فى المواقع والمؤسسات وبالتعويض، فى الوقت الذى لا يلتزم فيه الوزير بالوفاء للاجور والمرتبات دعك من الاستجابة لمطالب العاملين بتحسين الاجور والمرتبات وتوحيد هيكلها. واضاف خلال حديثه لـ (الخرطوم24) امس ان د. جبريل لن يتراجع عن ديماغوجيته وشعاره الاعتماد على الذات الذى لخصه دون وعى بالتاريخ والاقتصاد، برفع مستويات الضرائب والرسوم والضرائب غير المباشرة الى مستويات غير مسبوقة ولا علاقة لها بالنمو الضريبى (600 ــ 1000٪). وتجاوز الأزمة سياسى نعم، ولكنه ليس بالمصالحة مع الانقلابيين ولا بالابقاء على السياسات التى انتجت الأزمة. وهو ما يتناقض مع المصالح والتوجهات التى يعبر عنها د. جبريل وفى إطار السلطة التى ادخلت الاقتصاد فى نوبة من الانكماش والركود والتضخم.
واكد عادل استئناف السودان العلاقات الطبيعية مع المؤسسات المالية الدولية والاقليمية مطلوب ووفق رؤية وطنية اقتصادية أساسها تعبئة وحشد الموارد الذاتية وسيطرة الدولة عليها بمفهوم الاقتصاد الواحد متعدد القطاعات والخزانة الواحدة والشفافية ومكافحة الفساد، واستئناف لجنة ازالة التمكين مهمتها كمتلازمة التحول الديمقراطى، واصلاح جهاز الدولة والنظام الضريبى وتشرعاته، والاستثمار ومطلوباته، وقيام الدولة بوظيفتها الاجتماعية فى توفير ودعم السلع الاساسية والخدمات، ويمضى ذلك بإعادة التفاوض مع الدائنين والمانحين والمستثمرين بما يصين مصالح شعب السودان وقيمه العليا. وخطة متشعبة ومتكاملة (حزمة اصلاح الاقتصاد الوطنى) فى اطار البديل الديمقراطى.
تعثر التحويلات
ويرى الخبير الاقتصادي د. محمد الناير الا يعول السودان كثيراً على المجتمع الدولي، لجهة انه سيعود اجلاً أو عاجلاً للسودان وسيقوم بالوفاء بالتزاماته، ولكن ظل المجتمع الدولي يعد السودان ولكن لا يفي بالوعود، واضاف قائلاً: تاريخياً حتى عندما تم التوقيع على اتفاقية سلام نيفاشا، حينما تم فصل جنوب السودان، كانت هناك التزامات للمجتمع الدولي ووعود بأرقام محددة، ولكن لم يف بوعوده مطلقاً، وكذلك خلال الفترة الانتقالية وعد المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية، وعقدت حوالى ثمانية اجتماعات مع أصدقاء السودان، وايضاً لم يتم الوفاء بشيء حتى بعد تكبد السودان مبلغاً كبيراً اكثر من (٣٠٠) مليون دولار من حر مال الشعب السوداني دفع كتعويضات للولايات المتحدة الأمريكية، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، وكتسوية للقضية التي لم يكن السودان طرفاً فيها، وجزم الناير بالقول: رغم ذلك وحتى الآن تتعثر التحويلات المصرفية بين السودان والمصارف العالمية، وقطع بعد التزام المجمتع الدولي بكل ما ذكر، لذلك يجب ألا نعول كثيراً، واردف قائلاً: هي محاولة بان يعود المجتمع الدولي ويقوم بالتزاماته تجاه السودان، ولكن اعتقد ان الموازنة القادمة ٢٠٢٣م يجب ان تعتمد على الذات، ولكن بمفهوم صحيح وليس بمفهوم خاطئ كما كان الوضع في عام ٢٠٢2م،
وجزم الناير في حديثه لـ (الخرطوم24) بأنه يجب الاعتماد على امكانات وموارد البلاد الطبيعية لمصلحة الاقتصاد والمواطن، وليس الاعتماد على زيادات جمركية وضريبية وايرادية بصورة كبيرة، وبالتالي يجب توسيع المظلة افقياً وليس رأسياً، لجهة أن التوسيع الأفقي يصب في مصلحة المواطن، ولذلك حال جاءت المؤسسات الدولية فهو خير، ولكن ان تبنى الموازنة على المجمتع الدولي لا اعتقد ان هذا منطقي، وقبل موازنة ٢٠٢٣م سيتم تشكيل حكومة ربما حكومة كفاءات مستقلة مدنية، ولكن في اعتقادي ان المجتمع الدولي سيجد من الذرائع ما يكفي ليمتنع عن التعاون مع السودان، وجزم الناير بان قضية السودان كبيرة لجهة انه بلد مهم جداً ويمتلك موارد ضخمة وموقعاً استراتيجياً، ويمتلك ساحلاً طوله (٧٥٠) كيلومتراً على اهم ممر ملاحي البحر الأحمر، وهذا يجعل السودان عرضة لكثير من الأبعاد السياسية في التعاون مع المؤسسات الدولية معه، خاصة في ظل السباق الدولي بين الغرب بقيادة الولايات الأمريكية والشرق (روسيا والصين وغيرها)، ولذلك يجب أن يتم الاعتماد على الذات والاستفادة من امكانات وقدرات البلاد، وليس الضغط على المواطن او فرض رسوم وضرائب جديدة. وجزم الناير بأن يتم التعامل في السياسة بحكمة، وبالتاكيد سيأتي المجمتع الدولي لا محال، ولكن هذا يتطلب ان يكون هناك توافق في المرحلة القادمة على تشكيل حكومة كفاءات مستقلة لمرحلة انتقالية، ولن تكون هناك حجة للمجتمع الدولي.
تحفظ
ولم يذهب الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد بعيداً عن سابقه بالحديث عن ان المؤسسات الاقتصادية الدولية تتحكم فيها دول كبرى، وهذه المؤسسات تدار بالدول العظمى، وهذه الدول كانت لديها بعض التحفظات على ما حدث في ٢٥ اكتوبر من العام الماضي، وهذه الأحداث ما لم تتغير ويتم تشكيل حكومة مدنية والعودة الى ما قبل اكتوبر من العام الماضي لن يكون هناك أي تقدم في العلاقة بين السودان والمؤسسات المالية الدولية، وقال: في تقديري حال تم التغيير نحو التحول السياسي سيكون هناك تقدم ملحوظ وتعود كل الوعودات، وهذه لم يتم منها الا جزء يسير جداً، وبدأت الحكومة السودانية في خطوات مهمة جداً بتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي بالاصلاحات الاقتصادية، ورفع الدعم عن الكثير من المنتجات الأساسية كالخبز والمحروقات، ولذلك اتوقع حال تم الاتفاق بين القوى السياسية والمجلس العسكري وعودة الحياة الي ما قبل ٢٥ اكتوبر أن تستأنف هذه المؤسسات الدولية علاقتها مع السودان، والآن نرى ان الاقتصاد يعيش اسوأ حالة تتمثل في الاقتصاد شبه المنهار وعملة شبه منهارة وارتفاع كبير في أرقام التضخم، وقطع هيثم بأن الاقتصاد وصل الى مراحل لم يعشها لفترات طويلة، وذلك بسبب هذه الضغوطات الدولية، وهي ليست من المؤسستين البنك الدولي وصندوق النقد، لجهة أن هناك ممارسات من بعض الدول التي حجبت وعودها بتقديم الدعم، وهناك دول شقيقة وعدت بل بدأت في تنفيذ الدعم بعد التغيير الذي حدث في ١٩ ابريل، وقدمت قليلاً من الدعومات، وهذه الدول اقتنعت تماماً بأنه ما لم يتم الاتفاق بين القوى السياسية والمجلس العسكري لن يتم تقديم دعم، إضافة الى ذلك ان العالم تغير والاقتصاد العالمي تغير، وهناك ارتفاع كبير في أسعار الطاقة والبترول على مستوى العالم، واردف قائلاً: ان هناك ازمة كبيرة خلقتها الحرب الروسية الاوكرانية تمثلت في ندرة الغذاء وارتفاع اسعار الغذاء، وان المعسكرات السياسية العالمية تحولت واصبح هناك اثنان او ثلاثة ما بين محايد ومؤيد للاجراءات الروسية وآخر مضاد لها، لذلك فإن السودان في حاجة كبيرة للوصول الى اتفاق بين العسكر والقوى السياسية وتحقيق وفاق سوداني شامل وخلق بيئة اقتصادية صحيحة تساعد على الإنتاج والتصدير والاستقرار وتقديم الخدمات الأساسية للمساهمة في جذب الاستثمارات وايضاً جذب الاستثمار الوطني اولاً، ونبه الى وجود اشكالية للمستثمرين الوطنيين، فمنهم من غادر ومن يفكر في ان يغادر، إضافة ذلك عدم وجود بيئة صالحة للاستثمار بالبلاد للمستثمر الوطني قبل الاجنبي، وجزم هيثم بأن حديث وزير المالية فيه نوع من العقلانية، ولم يقل هناك عود ما لم يتم تنفيذ الشرط وهو واضح جداً، وقال: في تقديري يمكن ان يحقق كثيراً من الحلول للخروج من عنق الزجاجة للاقتصاد.