حسن عبد الحميد
من سوء حظ العلمانيين والمتغربين واللبراليين الجدد أن ملكة بريطانيا اليزابيث قد توفيت قبل أيام ـ سبتمبر 2022م ـ وقد سلّط الإعلام أضواءً كثيفة على حياتها ومناصبها، والمعلوم أن الملكة هي راعية الكنيسة البروتستانتية؛ وابنها الملك الجديد نشرت وسائل الإعلام أيضا أنه تعهد بحماية وصيانة البروتستانتية؛ أورد هذه المعلومات التي أصبحت معلومة للكل، لنبيّن للعلمانيين وأشباههم أن الدولة ليست محايدة تجاه الأديان ـ بل ولا تجاه المذاهب داخل الديانة الواحدة ـ وأن ما يحاولون فرضه علينا؛ مرفوض هناك حيث قبلتهم ونموذجهم الذي يحاولون أن يحتذوه، ويحاولون أن يفرضوه علينا.
هذه المقدمة ليست مناسبة بالطبع مع المسلم العادي، الذي يفهم أن التزام أحكام الله في كافة جوانب الحياة ـ ومنها الجوانب السياسية والقضائية ـ جزء من إيمانه ولا يكتمل إيمانه إلا بالتسليم بهذه الحقيقة، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وقد بينها العلماء والفقهاء على مرّ التاريخ الإسلامي حتى أصبحت من المعلومات من الدين بالضرورة، ومن هذه الأدلة على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى في سورة النساء ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) فبمجرد (إرادة) التحاكم إلى الطاغوت اعتبر سبحانه إيمانهم (زعماً) لا يقوم دليل على صحته؛ إلى أن يقول سبحانه في نفس السورة، وبعد هذه الآيات بآيات قليلة ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) هكذا بصورة حاسمة نفي للإيمان حتى يتم تحكيم شرع الله، ثم نفي الحرج وتمام التسليم..هذا هو المدخل الطبيعي للمؤمن العادي، وبذلك تُحسم قضية التحاكم إلى الله حسما قاطعا، وليس بعد كلام الله تعالى كلام.
أورد هذه المقدمة وبين يديّ مشروع الدستور الانتقالي لسنة 2022م الذي اقترحته لجنة تسيير نقابة المحامين، وإن كان البعض يؤكد أن هذا المقترح مقدم من اللجنة المركزية لقوى الحرية والتغيير وإنما تتستر من وراء لجنة تسيير نقابة المحامين، على كلٍ؛ جاء هذا الدستور يشتمل على اثني عشر بابا وسبعة وسبعين مادة توزعت على تسع وعشرين صفحة.
والدستور عليه مآخذ كثيرة سنفصلها لاحقا، ولكن أهم المآخذ وأخطرها، الصبغة العلمانية التي صبغت الدستور، وتظهر هذه الصبغة في كثير من المواد، سنعرض لأهمها، والمعلوم ابتداء أن العلمانية ومعناها الاصطلاحي حسب ما جاء في الموسوعات الغربية نفسها هي اللادينية، أو إقامة الحياة العامة بعيدا عن هدي الدين، أو إنكار أي دور للدين في الحياة العامة، وحبسه فقط في أماكن العبادة، وبذا فإن العلمانية هي فصل الدين عن الحياة، وليست فصل الدين عن الدولة، وهذا لا يقول به مسلم يفهم إسلامه فهما جيدا، إلا أن يكون حديث إسلام أو نشأ ببادية بعيدا عن مظان العلم ومراكز الحضارة الإسلامية.
من أهم ما يؤكد أن مشروع هذا الدستور علماني، ما جاء في الباب الأول المادة (3ـ 3) وتقرأ: ( الدولة السودانية دولة مدنية تقف على مسافة واحدة من كل الأديان وكريم المعتقدات) وهاهنا إشارة واضحة إلى أن الدولة المدنية التي ينادي بها البعض هي دولة علمانية، لكن لم توات البعض الشجاعة ليصرح بهذا، وهاهو مشروع الدستور الانتقالي يفضح نواياهم. أشرنا آنفا إلى أن التحاكم إلى شرع الله تعالى جزء من إيمان المسلم لا يكتمل إيمانه إلا بالتسليم بهذه الحقيقة، وأشرنا إلى أن بريطانيا ـ مثلا ـ لا تقف الدولة هناك على مسافة واحدة من الأديان، بله من المذاهب داخل الديانة الواحدة، ونضيف هنا أن الخرطوم24 أصبح عدد المسلمين فيه يتجاوز التسعين بالمائة بمراحل بعد انفصال الجنوب، والمسلم العادي يتعبد الله تعالى بتلاوة القرآن والنزول على أحكامه، فكيف تريدون لدولة تحكم هذا الكم من المسلمين أن تقف على مسافة واحدة من الأديان، وبأي معيار يكون هذا عدلا؟ المسلم العادي لا يرتضي أن تقف الدولة التي تمثله على مسافة واحدة من الأديان، لأن التحاكم إلى شرع الله جزء من عقيدته، وكل دستور أو قانون خالف شرع الله فهو موضوع ولا يساوي المداد الذي كتب به ومرفوض من حيث المبدأ، هذا هو المدخل الحقيقي لمناقشة هذه القضية، ويجب أن يكون ذلك واضحا للمسلمين وللعلمانيين وأشباهم معا. وهذا هو أهم المآخذ وأخطرها على مشروع الدستور الانتقالي كما ذكرنا، والعلمانية واضحة في غير هذه المادة من مواد الدستور لمن أراد أن يستزيد، ونكتفي هاهنا بهذه الإشارة.
أمر آخر يشكل مأخذا رئيسا على مشروع الدستور الانتقالي، ويأتيك إحساس أن من كتبوا هذا الدستور متأثرون بالحركة النسوية العلمانية العالمية المتطرفة، وبثوا تأثرهم هذا في ثنايا هذا المشروع، مثلا في الباب الثاني المادة (13 ـ 1) تقرأ : ( تحمي الدولة حقوق المرأة كما وردت في العهود والاتفاقيات والإعلانات الدولية والإقليمية ذات الصلة) هذه المادة تريد بجرة قلم أن تفرض علينا العهود والاتفاقيات والإعلانات الدولية والإقليمية ذات الصلة، كـ (سيداو) مثلا، و(سيداو) اتفاقية علمانية غربية تريد أن تفرض نمطا معينا ونموذجا للمرأة يتعارض مع ثوابت ديننا وقيمه، وقد أصدرت هيئات علمية أبحاث وفتاوى حول هذه الاتفاقية المسخ، وهي متاحة في شبكة الإنترنت لمن أراد أن يستزيد من العلم بحقيقة هذه الاتفاقية ورأي العلماء والفقهاء المسلمين فيها، ما يهمنا هنا أن هذه المادة مرفوضة لأنها تريد أن تفرض علينا اتفاقيات وعهودا دولية تتعارض مع ديننا الإسلامي.
وتمضي (فوبيا) الانحياز للمرأة وفق المنظور الغربي بصورة غريبة ومضحكة في هذا المشروع، حيث جاء في الباب الخامس، الفصل الأول الذي يتحدث عن المجلس التشريع الانتقالي، المادة (39 ـ 2) وتقرأ : (لا تقل نسبة مشاركة النساء عن 40% من عضوية المجلس التشريعي) والسؤال: لماذا؟ ألم ينص مشروع دستورك نفسه في الباب الأول، المادة (3ـ 1) على أن جمهورية السودان دولة ديمقراطية فدرالية….إلى آخر المادة، فلماذا يتم النص على نسبة النساء في المجلس التشريعي الانتقالي؟ أين الديمقراطية هنا بمقايسكم أنتم يا من وضعتم مشروع الدستور؟ إنها (فوبيا) الانحياز للنسوية وفق المفهوم الغربي العلماني .. لا غير.
وتمضي غرائب مشروع الدستور الانتقالي فيما يختص بالمرأة والنساء، لتصل إلى الباب الخامس المادة (44 ـ 2) وتتحدث عن تكوين مجلس السيادة الانتقالي، وتقرأ : ( يتكون مجلس السيادة من (…..) أعضاء مدنيين مناصفة بين الجنسين تختارهم وتعينهم القوى الموقعة على الإعلان السياسي الذي صدر بموجبه هذا الدستور) سنتجاوز هنا موضوع القوى الموقعة على الإعلان السياسي التي تعين مجلس السيادة، لأننا بصدد الحديث عن (فوبيا) الانحياز للمرأة وفق المفهوم العلماني الغربي، الذي تقوده الحركات النسوية المتطرفة، ونتساءل: ما علاقة الجنس هنا بعضوية المجلس السيادي؟ وهل هو مجلس يقوم على الكفاءة؟ أم على توزيع الفرص بين جناحي المجتمع من رجال ونساء؟ وما علاقة الجنس أصلا بالكفاءة وشغل هذا المنصب الحساس الخطير؟.. لا منطق في هذا كله سوى الرضوخ للحركة النسوية المتطرفة ومحاولة فرض نموذج علماني شائه على السودان.
مشروع الدستور يحتوي على (فوبيا) أخرى،هي فوبيا الانقلابات العسكرية، ومن حق أي انسان أن يتخذ (الفوبيا) التي تناسبه؛ لكن عليه أن يكون موضوعيا ومنطقيا، فالمود (6 ـ 3) و (32 ـ 5) و (34 ـ 4 ـ ج) مثلا تتحدث عن انقلابي 30 يونيو 1989م و25 اكتوبر 2021م فقط وضرورة محاسبتهما على الجرائم التي ارتكبت بسببهما.. حسنا، ولكن أين بقية الانقلابات؟ وأين بقية الجرائم في الفترة من أغسطس 2019م وحتى أكتوبر 2021م أي فترة حمدوك؟ ألم تكن هناك جرائم؟ ألا تقتضي العدالة أن يحاسب الجميع بدلا من (القفز) على فترة محددة ومحاسبة من قبلها ومن بعدها؟ أي منطق هذا وأي دستور (ينتقي) ما شاء له من فترات ليحاسبها، نتكلم عن الجرائم التي ارتكبت وليس عن الانقلاب العسكري فقط؟ ولكن هذا موضوع طويل قد لا تستوعبه مساحة هذا المقال، وربما نعود إليه بما تسمح به مقالات أخرى إن شاء الله.
خلاصة الأمر أن مشروع الدستور الانتقالي لسنة 2022م هو دستور علماني تجب مناهضته ومقاومته وإسقاطه من عدة أبواب أهمها وأخطرها على الإطلاق أنه دستور ضد ثوابت الأمة ودين أغلبيتها وتقاليد معظم ساكني هذا البلد الطيب.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس