الزعيم خضر حمد .. البعد الفكري والعروبي للوطنية السودانية (1/2) – الخرطوم24

الزعيم خضر حمد .. البعد الفكري والعروبي للوطنية السودانية (1/2) – الخرطوم24


 

ولد بمدينة الأبيض عام 1910م وأكمل تعليمه الأولي والمتوسط بمدارسها، واستنشق في صباه الباكر هواء الفكر الحر في المجالس الفكرية والعلمية العامرة التي كان يقوم على أمرها شقيقه الأكبر عبد الله حمد، وتأثر بروحها النهضوية العارمة، والتحق بقسم المترجمين بكلية غردون التذكارية ليتخرج فيه عام 1929م.
نفر أثناء سنِّي تلمذته في الكلية من غطرسة أساتذتها الإنجليز الذين كانوا ينتخبون للتدريس في كلية غردون تمهيدا لتولي الوظائف الإدارية في الدولة، فيتدربون منذ الوهلة الأولى على التعالى على المواطنين والإساءة إليهم وإيذائهم بالشتم والضرب؛ فأضمر في نفسه كره المحتلين الأجانب وأعد نفسه لمناهضتهم في مقبل حياته التي كرسها بطولها لهذا الغرض الوطني النبيل.
الاهتمام الفكري المبكر
انضم إلى حلقة الأبروفيين الفكرية الأدبية في أم درمان، وهي إحدى جمعيات الاطلاع الثقافي التي أنشأها طلاب كلية غردون وخريجوها؛ بأثر من إحساسهم بضعف التعليم النظامي، وانحصار أغراضه في تكوين موظفين من المستوى البسيط والمتوسط، ليكونوا تحت إمرة الإداريين الإنجليز، فسمت هممهم من ثم إلى استنشاق هواء الفكر العالمي بمختلف اتجاهاته، مع الاتصال الوثيق بمصادر الأدب العربي القديم منه والحديث.
وقد طرق هذه الناحية في تاريخ الفكر السوداني البروفيسور مدثر عبد الرحيم في كتابه التأسيسي عن آثار الامبريالية على الحركة القومية في السودان؛ فذكر أن إخفاق ثورة 1924م نبَّه طلائع الخريجين إلى أن من أسباب إخفاق الثورة افتقار قادتها وجماهيرها على السواء إلى زاد مناسب من الفكر السياسي، وقلة ملاحقتهم المتأملة في الأوضاع السياسية العالمية في تلك الحقبة المضطربة في أعقاب الحرب العالمية الأولى:” ففي سبيل تعليم الجماهير وإعداد الزعماء لتنفيذ واجباتهم بصورة صحيحة كان من الضروري أن توجه كل الجهود فترة من الزمن إلى التعلم والتفكير الجاد… [و] كان على الشبان إما أن يذهبوا إلى مصر والبلاد العربية الأخرى، أو أن يسعوا للتوصل إلى النضج الثقافي بجهودهم الشخصية.
وإذا كانوا مستعدين لبذل الجهد الضروري، فإن معرفتهم اللغة الإنجليزية مكنتهم من تحسين فهمهم للعالم الحديث ولأفكاره، بينما أعادوا عن طريق اللغة العربية اكتشاف جذورهم الخاصة وإنماء صفاته القومية، وكونوا حلقات اتصال أكثر وثوقا بالشعوب المماثلة لهم في تفكيرها، في مصر وفي أجزاء أخرى من العالم العربي؛ وهكذا فقد بدأت تظهر جماعات الدراسة المؤلفة من شبان مخلصين تقريبا في كل مكان سبق أن تألفت فيه الفرق الخماسية التابعة لجمعية الاتحاد السوداني أو اللواء الأبيض” .
وتناول الأستاذ خضر حمد هذه الناحية من الوجهة التطبيقية فقال:” تخرجنا في كلية غردون ونحن نعلم أن تعليمنا قاصر وأننا لم نحصل على التعليم الجامعي الذي كنا نحلم به… وكان واجبنا بعد أن وضعنا في أول الطريق أن نسير فيه إلى نهايته بوسائلنا وأن ننمي معلوماتنا باجتهادنا فكنا لا نصرف الوقت إلا في القراءة، وكان الواحد لا يتحدث في الترام مع أحد؛ بل كان يناجي كتابه الذي لا يفارقه، وكان الطريق من أبي روف إلى الخرطوم يأخذ ساعة من الزمن، وكذلك الرجوع، فكانت هذه الساعة كسبا لا نصرفه إلا في القراءة” .
وقد كانت توجهات جمعية الأبروفيين أقرب في مسارها العام إلى مذاهب الاشتراكيين الفابيين الإنجليز، وهكذا تشبع خضر حمد بأفكارهم الشعبية التقدمية وانطلق من ثم للتعرف على الشعب السوداني على الطبيعة؛ فجال في أنحاء القطر المختلفة؛ محتكا بظروفها وصروفها، وبذلك لم يبق محلقا في سماوات التهويمات والشعارات البعيدة عن آمال غمار الناس ومآلاتهم.
وعلى إثر احتكاكه المباشر بالناس عدَل عن كثير من المقولات الفكرية النظرية التي اطلع عليها وعدَّل بعضها مقتربا من الواقعية العفوية المباشرة، وحرر أفكاره الجديدة في مقالات ناقش فيها قضايا الشعب والأرض، ونشر بعضها في مجلة (النهضة) التي كانت اسما حقيقيا دالا على مسماها، وكان قد أصدرها الأستاذ الرائد النهضوي الحقيقي محمد عباس أبو الريش، في أوائل الثلاثينيات من القرن المنقضي، وقد كتب خضر حمد في صحف غيرها ولكنه نسب مقالاته إلى أسماء قلمية؛ منها طبجي ومصور وغيرها.
تقدمي ضد الطائفية
ومها يكن فقد بقي من تأثير الفكر الفابي الإنجليزي على خضر حمد أن برئ من لوثة الولاء الأعمى للطائفية الدينية الثنائية التي استولت على عقول عوام السودان وبعض مثقفيهم الانتهازيين وأشعلت عواطفهم وحشدتهم في صراعات متصلة مع أتباع الطائفة المناوئة، فاستهلكت قوى الناس في مواجهات داخلية غير مستحقة، وغفلت عن أداء واجباتها المستحقة في تسخير قوى الشعب لجهاد المحتلين الإنجليز.
بل كان من آثام الحركة الطائفية – بشقيها – أنها اتجهت لموادة المحتلين الأجانب وممالأتهم، وانجرت حثيثا وراء توجهاتهم؛ وذلك لقاء تسهيلات اقتصادية وهبوها لزعماء الطائفتين، ونظير وعود سياسية أغروهم بها، فأصبحت كل طائفة تجهد في أن تتقرب أكثر من أختها إلى مقامات المحتلين.
وتفاديا لتلكم الأخطار والأضرار وقف خضر حمد بمنأى عن أي انتماء طائفي، ونادى بإبعاد الحركة الطائفية عن الحركة السياسية برمتها حتى لا تطبعها بطابعها الرجعي العقيم، وحتى لا تعوق مساعيها الواعدة ولا تعديها بتوجهها الانتهازي الوخيم.
وعندما أسهم في تأسيس حزب الاتحاديين حرص على أن يرتكز الحزب على مفاهيم اقتصادية واجتماعية تنموية الطابع وأقرب ما تكون إلى الفكر الاشتراكي المتحرر؛ وجعل عمادها محاربة الاحتكار، والحرص على توزيع الثروة بقدر معقول من العدل والتساوي، مع تشجيع النظام التعاوني، وتحقيق الضمان الاجتماعي، وتمليك الدولة مصادر الطاقة ووسائل النقل.
ولما يكن خضر حمد مفكرا تجريديا خالصا، وكان على معرفة دقيقة بحاجات الشعب ومطالبه فقد مزج التفكير النظري بالعمل النهضوي والحضاري؛ فشارك في حملات محو الأمية من أجل نشر التعليم في أوساط العامة، وأسهم في إنشاء معهد القرش الصناعي لتدريب النشء على العمل الصناعي، وشارك في إنشاء مدرسة أم درمان الأهلية عام 1930م، لما لاحظ مع رهطه من أبكار الخريجين أن سياسة المحتلين قد اتجهت لتضييق نطاق التعليم في البلاد بعد ما شهدوه من حوادث انتفاضة 1924م.
وفي عام 1935م كان له شرف أن نادى بإنشاء مؤتمر الخريجين العام وذلك في مقال له بعموده الصحفي (في الهدف) بصحيفة (السودان) قال فيه:” إنه من حظ الخريجين السعيد أن هيأت له الظروف عيدا عاما يحتفلون فيه كل عام… ومنذ العام الماضي اتخذ هذا العيد أهمية خاصة، وأصبح يحضر للاحتفال به كثير من الخريجين من غير العاصمة المثلثة… ومما يؤسف له أننا في كل عام نجتمع لنعيد ذكرى الماضي الجميل… لم نفكر قط في أن نجعل هذا اليوم مؤتمرا نبحث فيه أمورنا المهمة التي تتعلق بماضي بلادنا وحاضرها ومستقبلها، ونستعرض أعمالنا في بحر العام المنصرم؛ حتى يكون لاجتماعنا معنى، ولعيدنا أثر في حياتنا” .
وتجاوبت جموع الخريجين مع هذه الدعوة الوطنية الصادقة، وعلى إثر ذلك كتب الأستاذ أحمد خير في الصحيفة نفسها ينادي بنقل وظائف نادي الخريجين من مجرد ناد للسهر والسمر إلى:” كعبة للنهضة المأمولة، وطريقنا لذلك هو مؤتمر الخريجين؛ مؤتمر قوامه صراحة العالم، وروحه اتزان العمل؛ وغرضه خدمة القضيتين: قضية الخريجين كطبقة، وقضيتهم العامة باعتبارهم جزءا من هذا الكيان” .
وقد تأسس المؤتمر بالفعل في 1938م ثم انتخب خضر حمد سكرتيرا له عام 1942م، ومن المعرف أن قد كان للمؤتمر نضاله البارز في سبيل استقلال البلاد.
وفي غضون نشاطه في عمل المؤتمر عمد الأستاذ خضر حمد إلى تكوين جمعيات الأدبية وفكرية لتؤول فيما بعد إلى خلايا أشد تنظيما تعمل في إطار المؤتمر الفضفاض، وخطط من وراء ذلك لتأليف كتائب فدائية مسلحة، تتولى إشعال الثورة الوطنية ضد المحتلين الإنجليز، إلا أنه أخفق في الحصول على السلاح من الإيطاليين في إثيوبيا . وبذلك صرف النظر عن الموضوع في حالة السودان، وبقي في خاطره شيء منه؛ إذ توجه بهمته للجهاد في فلسطين قبل أن يكمل الصهيونيون سيطرتهم عليها.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس



شارك هذه المقالة