حسن عبد الحميد
الأحداث التاريخية ـ وخاصة السياسية منها ـ تتخذ ( نفس الملامح والشبه) عبر الزمن، وقديما قيل إن التاريخ يعيد نفسه، والحقيقة كما لاحظ بعض الباحثين أن التاريخ لا يعيد نفسه بالمعنى الحرفي، وإنما تتشابه أحداثه، ومن هنا تكمن أهمية قراءة التاريخ بدقة وإبراز حقائقه، وتُلقى المسئولية الكبرى على المؤرخين المحققين والباحثين الجادين لتسليط الضوء على الوقائع التاريخية كما وقعت دون تجيير أو تحوير، وفي الجانب الآخر؛ يبرز بعض أدعياء البطولات، معتمدين على ضعف ذاكرة البعض، وعلى عدم قراءة البعض الآخر للتاريخ، لينسجوا بطولات ويتوهموا وقائع لم تحدث أصلا على أرض الواقع.
والساسة السودانيون من الذين شهدوا عصورا سياسية مختلفة أو شاركوا في صنعها، من أقل الناس كتابة لتجاربهم ومشاهداتهم ـ للأسف ـ ومن هاهنا يكمن الخطر، وتضيع ذاكرة الأمة، وينشط (النشطاء) والمتسلقون ليقوموا بدور كبير في ليّ الحقائق وتجييرها في ظل غياب المعلومة الصحيحة من معاصريها أو صانعيها، وهذه دعوة للمخضرمين من السياسيين الذين شهدوا عصورا سياسية مختلفة أن يكتبوا تجاربهم ومشاهداتهم لتكون في يد الأجيال الجديدة مادة مناسبة يستطيعون عبرها مواصلة المسير على ضوء من الحقائق الموثقة.
ولقد تابعت في الأسابيع الماضية حلقات برنامج “الذاكرة السياسية” الذي تبثه قناة العربية، وقد استضافت حتى الآن ـ الحادي عشر من أغسطس 2022م ـ في ثلاث حلقات، الدكتور الجزولي دفع الله رئيس وزراء الفترة الانتقالية في السودان 1985 ـ 1986م، والرجل رغم أن العمر قد تقدم به، لكنه يملك ذاكرة جيدة، ويستطيع استدعاء الأحداث والشخصيات بسهولة أثناء سرده لفترة حكمه، وقد توقف في الحلقة الثالثة عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وأورد عددا من الأسرار السياسية ربما لا تتاح للمتابع العادي، وربما في الحلقات القادمة يكشف المزيد من الأسرار.
وتكتسب شهادة الدكتور الجزولي أهمية كبرى باعتبار موقعه كرئيس للوزراء في الفترة الانتقالية، ومن تاريخه السياسي، إذ مارس السياسية منذ أن كان طالبا منخرطا في صفوف الإسلاميين منتظما في تنظيم حركة التحرير الإسلامي، ثم أصبح نقيبا للأطباء أواخر عهد الرئيس نميري، ثم أصبح رئيسا للتجمع النقابي الذي ساهم في إسقاط نظام الرئيس نميري، وهذا ما أهّله ليكون رئيسا لأول حكومة أعقبت سقوط نظام نميري في 6 أبريل 1985م إثر ثورة شعبية.
كثيرة هي الأسرار التي كشف عنها الدكتور الجزولي في هذه الحلقات الثلاث حتى الآن، وربما لا يتاح المجال هاهنا لاستعراضها كلها، لكني سأركز على قضيتين أوردهما في شهادته، وهاتان القضيتان ربما لا تتاح للأجيال الجديدة معرفتهما بدقة، وحتى بعضا من الأجيال القديمة ربما تكون قد تعرضت لروايات مشوهة وكتابات مغرضة تبعدهم عن الحقائق التاريخية كما وقعت، وأولى هاتين القضيتين قضية اليسار ودوره في تلك المرحلة، وثانيتهما الموقف من قوانين الشريعة الإسلامية التي سنها النميري في آخر أيامه، والتي أطلق عليها البعض في ذلك الزمن قوانين سبتمبر.
أما القضية الأولى المتعلقة بدور اليسار في تلك الفترة، فقد سال مداد كثير، وأطلقت ادعاءات عريضة، حتى كدنا نصدق أن اليسار هو الذي صنع تلك الانتفاضة عام 1985م، وأن له الدور الأكبر في تشكيل حكومة الفترة الانتقالية التي تولى رئاستها الدكتور الجزولي دفع، ومن هنا تأتي شهادة الدكتور الجزولي شخصيا لتضع الأمور في نصابها، وتعيد لأحزاب اليسار أوزانها الحقيقية، فقد سأل مقدم البرنامج في سياق الحلقات الدكتور الجزولي دفع الله عن دور اليسار، وكان رد الدكتور الجزولي حاسما وأوضح أن اليسار لم يكن له أي دور في تلك الفترة، وسياق الحلقة هنا تحديدا يتحدث عن تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله، وعن الاجتماعات التي كانت تعقد في نقابة الأطباء لتشكيل الحكومة الانتقالية وتمخضت عن اختيار الدكتور الجزولي دفع الله رئيسا لوزراء الفترة الانتقالية. ولكن يبدو أن مقدم البرنامج لم يكتفِ بهذه الشهادة أو لم يقتنع بها، فعاد في نفس السياق ـ كعادة الإعلاميين ومقدمي البرامج ـ ليصيغ السؤال بصورة أخرى، فسأل الدكتور الجزولي دفع قائلا يقال أن محجوب عثمان ـ القيادي في الحزب الشيوعي السوداني آنذاك ـ قد اعترض على ترشيح ميرغني النصري نقيب المحامين ـ وهو من الإسلاميين أيضا ـ لرئاسة الوزراء، وهنا أيضا كان رد الدكتور الجزولي دفع الله حاسما وقاطعا، فقد قال بوضوح أن محجوب عثمان لم يحضر أيًّا من تلك الاجتماعات التي تمخضت عن تشكيل الحكومة!! وحكاية الدور اليساري في ثورة أبريل 1985م وفي تشكيل الحكومة الانتقالية كانت رائجة إلى حد كبير في تلك السنوات، ولعل هذه المقولات كانت ستنطلي على الكثيرين لولا شهادة الدكتور الجزولي دفع الله.
أما القضية الثانية المتعلقة بقوانين الشريعة الإسلامية، فقد تعرضت هي الأخرى لكم هائل من الإشاعات والأقاويل التي لا تستند إلى حقائق تاريخية ثابتة، والجدير بالذكر ـ لمصلحة الأجيال الجديدة وغير المتابعين ـ أن العلمانيين واليساريين قد شنوا حملة كبيرة وضخمة لإلغاء تلك القوانين الشرعية، وحتى الدول الخارجية كانت تزعجها هذه القوانين، ويُنسب للمشير سوار الذهب ـ رحمه الله ـ قوله أنه ما التقي بحاكم إلا وطلب منه إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية!! ولكن كل هذا الكيد الخارجي والداخلي لم ينجح في إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية بفضل الله تعالي ثم بوعي جماهير الشعب السوداني التي صوّتت في كل الانتخابات في الفترات الديمقراطية السابقة في السودان لصالح البرنامج الإسلامي الذي رفعته الأحزاب الكبيرة ذات الثقل الجماهيري.
وشهادة الدكتور الجزولي دفع الله في هذه القضية لم تكن تتعلق بالعلمانيين واليساريين، فهؤلاء قد فرغنا من بيان حقيقة أنهم لم يكن لهم دور كبير في تلك الفترة ولم يكونوا من القوة بحيث يؤثرون على الأحداث السياسية، ولكن ما صدمني في شهادة الدكتور الجزولي أن الصادق المهدي ـ رحمه الله ـ زعيم حزب الأمة القومي قد زاره في مجلس الوزراء بطلب منه ـ من الصادق ـ ومعه الدكتور عمر نور الدائم ـ رحمه الله ـ القيادي بحزب الأمة آنذاك، وطلبا منه أن يُلغي قوانين الشريعة الإسلامية التي يسمونها قوانين سبتمبر، ورغم أن الدكتور الجزولي دفع الله كان قد ذكر في جزء آخر من هذه الحلقات أنه كان يعارض الطريقة التي تم بها تنفيذ هذه القوانين في عهد نميري، إلا أنه أجاب الصادق المهدي بحزم أنه لا يستطيع إلغاءها، باعتبار أنها تحتوي على قوانين إسلامية، وأضاف بوضوح شديد ـ والكلام للجزولي ـ أن من يعارض قوانين الشريعة الإسلامية عليه أن يراجع إسلامه، ثم أضاف الدكتور الجزولي حجة سياسية قوية حسم بها نهائيا الحديث حول هذا الأمر، فقد ذكر للصادق المهدي أنه يملك حزبا كبيرا، وأنه باستطاعته إن فاز في الانتخابات وشكل الحكومة أن يقوم هو بإلغاء هذه القوانين استنادا على قوته البرلمانية، ولما سأل مقدم البرنامج لماذا برأيك يحاولون إلغاء هذه القوانين في عهدكم، قال الدكتور الجزولي حتى يحمّلونا مسئولية إلغاءها، ثم أضاف إن الأحزاب الكبيرة في السودان تستند جميعها إلى برامج إسلامية وإلى قواعد إسلامية، وذكّر مقدم البرنامج ـ والمستمعين ـ أن الصادق المهدي يستند إلى طائفة الأنصار الإسلامية، وأن السيد محمد عثمان الميرغني يستند إلى طائفة الختمية الإسلامية، وأن الدكتور الترابي هو زعيم الحركة الإسلامية الحديثة، وهذه هي أكبر الأحزاب السودانية.
استمتعت جدا بحلقات الدكتور الجزولي الثلاث ـ حتى الآن ـ لما احتوته من حقائق تاريخية أشرنا لبعضها في عجالة، وربما الحلقات القادمة تحمل المزيد المثير.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس