الخرطوم : هنادي النور : هالة حافظ
شهدت العملة الوطنية ” الجنيه” تقلبات حادة في الفترة الأخيرة، مما دفع كبار موردي السلع لوقف توزيع منتجاتهم ورفع أسعار السلع بين 50 و100% في متاجر البقالة والتجزئة ، وظل المواطن خلال الفترة الماضية يعيش ازمة اقتصادية خانقة ومتضخمة ، صاحبها تعويم الجنيه، وأكدت الحكومة وقتها ان هذا الإجراء من أجل أن تتعافى قيمة العملة التي انخفضت الى مستويات قياسية وارتفعت الاسعار بصورة جنونية ، وقفز التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وبالتالي وجد التجار انفسهم امام أزمة اقتصادية طاحنة ملامحها قاتمة ووطأتها جعلت الكثير من التجار يلجأون للبيع “بالكسر” بسبب تلك الظروف من أجل الإيفاء بالتزاماتهم وعدم دخولهم إلى السجون ، (الخرطوم24) اجرت استطلاعا موسعا مع الجهات المختصة بالغرف المختلفة لمعرفة الآثار المترتبة على هذه التجارة التي نشطت مؤخرا .
دوافع الكسر
ويقول عضو اللجنة التسييرية لتجار القضارف كمال ابراهيم ان التجار الذين يلجأون للبيع بالكسر في الولاية لديهم دافع ، ويشير إلى أن التمويل من البنك الزراعي ضعيف الامر الذي يفتح المجال للبيع بالكسر أو البيع الآجل بين تجار الولاية، لجهة أن غالبية تجار الولاية مزارعون ، وان ٨٠% منهم يعتمدون على الزراعة.
واكد كمال في حديثة لـ( الخرطوم24 ) أن عددا من المزارعين رهنوا بيوتهم وعرباتهم لتوفيق أوضاعهم للتجارة .
وقال البنوك التجارية أوقفت المعاملات ولا يوجد تمويل تجاري مما يسهل معاملات مضرة على التجار والمواطن .
وجزم كمال بأن اكبر الإشكالات التي تواجه تجار الولاية توسيع المظلة الضريبية ، وأقر بأن عددا من المعاملات تتم خارج القانون ، واردف هناك عدد كبير ليس لديهم رخص تجارية ولا ملفات ضريبة ، واضاف غالبية التجار الناشطين في البيع و٩٠% منهم لا يملكون ملفات ورخص ضريبة ، مما يحدث نشاط تحت المتاجر المرصودة ، الامر الذي جعل صاحب الملف يتحمل العبء الضريبي .
وأوضح كمال انه قبل ثلاث سنوات تم اقتراح لإدارة الضرائب بأن موردي سلعة السكر يكونوا مرصودين وان لايتم البيع الا لصاحب الملف الضريبي لجهة ان سلعة السكر هي أكثر سلعة يتم فيها البيع بالكسر، وذلك يمكن ان يحد من انتشار معاملات خارج المظلة الضريبية .
إغلاق أسواق
ومن جانبه كشف رئيس الغرفة التجارية بولاية شمال كردفان عثمان سالم عن اتجاههم لإغلاق الأسواق في يومي الاثنين والثلاثاء القادمين وذلك بعد تدهور اوضاع التجار احتجاجاً على فرض ضرائب وصلت إلى نسبة 1000%
وقال عثمان لـ( الخرطوم24) ان قرار الاغلاق تم اجتماع ضم اتحاد اصحاب العمل والغرفة التجارية وعددا كبيرا من التجار ، واستنكروا زيادة نسبة الضرائب غير منطقية في ظل ركود اقتصادي وكساد بحركتي البيع والشراء ، وقررنا اغلاق الاسواق والبورصة بالولاية وسيكون الاستثناء لعدد من المخابز والمرافق المهمة .
وأفصح عثمان ان منشور الضرائب الجديد زاد بنسبة ٣٠% بدلا عن ١٥% من جملة الأرباح ، وجزم بان الجهات التي اصدرت المنشور به إجحاف وتعسف ، لجهة أن العملية التجارية لهذا العام تعرضت الى نكبات كثيرة ، منها اغلاق الميناء ، تضارب سياسات بنك السودان المركزي بجانب اغلاق الحجر الزراعي بالميناء وارتفاع رسوم الارضيات ، وتكلفة النقل البحري ، إضافة الى التضخم ، وارتفاع نسبة الفائدة بالبنوك من ١٢% الى ٣٢% . بجانب عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني كل هذه العوامل أدت إلى كساد كامل بالأسواق.
تجار في السجون
وجزم عثمان ان جملة هذه العوامل أدت الى خيارات كثيرة لدى التجار، منها عزوفهم عن العمل ، وآخرين بالسجون ، والبقية مهددون بالدخول إلى السجون ، وقال ” رغم تلك الاشكالات يزيد العبء بفرض ضرائب جديدة .
وقطع عثمان أن تلك الاشكالات التي ذكرت أعلاه نتج عنها تجارة البيع “بالكسر ” وبرر ذلك لعدم مقدرة التجار الايفاء بالالتزامات المفروضة عليهم تجاه الآخرين ، وبالتالي اصبحوا مهددين بالشيكات ، من أجل الالتزامات الأسرية ، ونبه الى لجوء التجار للبيع بالكسر بسبب الظروف الاقتصادية المحيطة بهم ، موضحا ان العملية تتم ببيع سلعة بسعر اعلى بدفع آجل، لجهة انهم مضطرون وذلك بسبب الكساد وفشل عن السداد ، مؤكدا ان هذا الأمر جعل الكثير منهم يدخلون السجون ،
وناشد عثمان الدولة بضرورة مراعاة حالة التجار والنظر اليهم بأنهم شريحة مهمة في المجتمع وفاعلين في محيطهم الاجتماعي ، وشدد على ضرورة التدخل العاجل من قبل الدولة وحل قضاياهم وحسم امر الضرائب الباهظة بدلا من الزج بهم بالسجون وتحويلهم الى عمالة.
أقساط ديون
بدوره اكد رئيس قسم الدراسات الاقتصادية بمركز الراصد الفاتح عثمان ان الركود الاقتصادي الكبير الذي يهيمن على الاقتصاد السوداني أدى الى اجبار رجال الأعمال السودانيين من مستوردين وتجار الجملة والبقالات الى البيع بأقل من سعر التكلفة للوفاء بأقساط ديونهم أو للخوف من انتهاء صلاحية السلع قبل التمكن من البيع بسبب ضعف المبيعات .
وكشف الفاتح في حديثه لـ (الخرطوم24) أن هذا الركود تسبب في خسائر كبيرة للمستوردين لأول مرة منذ نحو عشرين عاماً وقد نتج عنه تلف كميات كبيرة من السلع بسبب انتهاء فترة صلاحيتها، وتضرر قطاع النقل سواء للبضائع أو الركاب وهو ما دفع بالشركات التي خسرت القدرة على التنافس مع الشركات التي تمتلك بصات حديثة لفرض نظام المداورة بالبصات المتهالكة على المواطنين، وذلك بقوة قانون المداورة باستخدام السلطة للنجاة من الإفلاس. وتوقع انتهاء الركود الاقتصادي الحالي بنهاية العام الجاري مع بدء تبني الحكومة للهيكل الراتبي الجديد الذي سيضخ اموالاً كبيرة في الاسواق ومع وجود بوادر موسم انتاجي جيد فإن حالة البيع بالكسر ستقل الى حد كبير بنهاية العام الجاري.
ظاهرة عامة
ويوضح الخبير الاقتصادي محمد نور كركساوي ان هناك اسبابا عديدة لتفشي ظاهرة البيع بالكسر والذي يعنى البيع باقل من التكلفة بفارق كبير بحدود ٢٠-٣٠% وفى بعض الأحيان قد يصل إلى ٥٠%
وأبان في حديثه لـ (الخرطوم24) ان أهم أسبابه الظرف الاقتصادي الذي يمر به الشخص في الحالات الفردية ، لكن البيع بالكسر هذه الفترة أصبح ظاهرة عامة وليس فردية تعود أهم اسبابها إلى الركود الاقتصادي العالمي بسبب جائحة كورونا ، وتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على إمداد الوقود ، الطاقة والأغذية وأهمها القمح وزيوت الطعام، ويضيف قائلاً أما داخليا فترجع اسبابها الى تأثير المقاطعة الاقتصادية الدولية على السودان بعد انقلاب ٢٥ اكتوبر الماضي علاوة على ضعف إيرادات الموازنة العامة للدولة ومنهجية صرف إيرادات الدولة وتوجيهها نحو بنود الصرف التشغيلي للدولة وليس نحو بنود التنمية بجانب أسباب أخرى تتعلق بإدارة النقد وسياسات البنك المركزي في تحرير سعر الصرف بطريقة رأسية،بالإضافة إلى الفساد والتهريب وعدم قدرة وزارة المالية السيطرة على المال العام.
وأوضح كركساوي أن هذه الأسباب أدت إلى حالة الركود التضخمي التي نشهدها اليوم وهى حالة ضعف الطلب على السلع والخدمات وبخاصة غير الضرورية فأدى إلى حالة إحجام المستهلكين وتغيير النمط الاستهلاكي مما اجبر كثيرا من التجار إلى اللجوء لظاهرة الكسر اي البيع بأقل من التكلفة لجذب الزبائن وتحريك السوق لكسر حالة الجمود او الركود ولسداد ما عليهم من التزامات مالية آنية أو آجلة .
فقدان ثقة
وأكد امين مال غرفة المستوردين قاسم الرشيد ان لجوء التجار لاستخدام عملية البيع بالكسر بسبب تراكم الالتزامات على التجار في ظل الركود الاقتصادي، الامر الذي يضطرهم للبيع بالخسارة لتغطية التزاماتهم المالية .
ووصف في حديثه لـ(الخرطوم24) أن استخدام هذه العملية من الممارسات الخاطئة، وهي احد عوامل التشوهات الاقتصادية وأبان انها قد تكون حلا لكنه حل غير صحيح لجهة ان الحلول تكون وقتية وأضاف ” البستخدم حل البيع بالكسر لو عندو مال قارون حايفلس) موضحا أنها ستؤدي إلى فقدان الثقة بالتجار، وقال يجب على التجار عدم الدخول في التزامات مالية في ظل هذا الركود.
إغلاق جماعي
وفي السياق قال رئيس الغرف التجارية السابق بولاية الخرطوم حسن عيسى ان سبب البيع بالكسر او البيع بأقل من سعر التكلفة له انعكاسات سلبية على السوق لجهة عدم استطاعة التجار التماشي مع الأسعار وبالتالي حدوث خسارة خاصة لتعرض البضائع للتلف بسبب الكساد منذ شهر رمضان إضافة إلى زيادة الضرائب من ١٥٪ إلى ٣٠ ٪ بدون اي دراسة او تعديل للقانون او حتى وجود مجلس تشريعي وأضاف قائلاً “يعني انتقام” موضحا أن هذا الأمر أدى إلى إغلاق جماعي للمحلات التجارية والشركات، ويشير إلى أن سبب التأثير السلبي على انكماش قاعدة عرض السلع والخدمات وارتفاع الاسعار وتفاقم العجز بميزان المدفوعات تأثرت جميع المعاملات التجارية بالبلاد بسب تلك الأوضاع.
تجويع الوحوش
وفي ذات الاتجاه أوضح الخبير الاقتصادي وائل فهمي أن الكسر يقصد بها لجوء بعض رجال الاعمال لشراء بضاعة سريعة التصريف وتخفيض (وكسر) سعرها لبيعها بسعر اقل نسبيا لتوفير احتياجات اسرته او لتصريف اعمال او تفادي العقوبات القانونية ، واضاف بذلك يضحي بجزء من أرباحه او رأسماله لكي لا يقع في فخ غرامات التأخير والعقوبات القانونية.
وقال وائل لـ ( الخرطوم24 ) ان ظاهرة البيع بالكسر قديمة بالبلاد ، لكنها تكثفت في الفترة الاخيرة حيث مازالت سجون السودان تشهد العديد من المعسرين وأعضاء من الشبكات عابرة الحدود ومهربي رؤوس الاموال وغيرهم من الذين لجأوا الى هذه السياسة الفردية او الجزئية في ارتباطها بالفلسفة النيوليبرالية (التقشفية الانكماشية) للدولة والتي تستند الى ما يسمى باستراتيجية “تجويع الوحش” (اي الاسواق، بما فيها اسواق المصارف والوحدات شبه المالية، بل وحتى الموازنة العامة(>
وأضاف قائلاً أن اسباب اللجوء للبيع بالكسر عديدة ، تتجاوز احتياجات رب الاسرة اليومية وايضا كصاحب عمل في مقابلته بالالتزامات اليومية وذلك الى جانب خدمات الديون المترتبة على البضاعة التي يتاجر بها في كافة قطاعات الاقتصاد القومي.
وقال وائل في ظل تفاقم مرض الركود الاقتصادي الذي يضرب الاسواق المحلية بسبب لما يطلق عليه التجار “بالضعف المتواصل للسيولة ،” بسبب التآكل المتواصل للقوة الشرائية بفعل السياسات التضخمية او التضخم الجامح، بما يضعف القوة الشرائية لرؤوس الاموال، خاصة التشغيلية، الوضع الذي يضطر معه اصحاب العمال الى تدبير تلك الالتزامات اليومية ولو بكسر اسعار بضاعتهم في ظل الضعف المستمر للقوة الشرائية للزبائن وذلك بغرض توفير السيولة او الحفاظ على رأس ماله بالعملات الأجنبية او الأصول المتوقع ارتفاع أسعارها مستقبليا.
تعرض للإفلاس
وأضاف ” لكن اكثرها خطورة هو ان اثر البيع بالكسر يؤدي إلى التحجيم السلبي لحجم النشاط بالاسواق اذا تعرضت جهات ذات صلة بالافلاس. مما قد يفرض رفع الاسعار لتعويض الديون غير القابلة للتحصيل. اضف الى ذلك انه اذا كان عدد المقترضين ويكسرون بضاعتهم كبيرا من الممكن تهديد الجهاز المصرفي بالانهيار مما يدخل الاقتصاد في أزمة مالية كما حدث لامريكا في عام ٢٠٠٨ وحتى حاليا في عام ٢٠٢٢ ، فنتائج تخفيض الاسعار اقسى على الأسواق والاقتصاد من ارتفاعها .
ضبابية سياسات
واعتبر الخبير المصرفي ابراهيم اونور ان انتشار عملية البيع بالكسر سببه الأساسي عدم توفر السيولة إضافة إلى عدم وضوح الرؤية لسياسات الحكومة تجاه التجار، وأوضح في حديثه لـ (الخرطوم24) أن الخطوات التي قام بها وزير المالية في الفترة السابقة أدت إلى إرباك مشهد التجارة برفع الجمارك بصورة غير مدروسة خاصة قرار عدم إنزال البضائع حال عدم إكمال الاجراءات المصرفية لذلك وارجع سبب انتشار هذه الظاهرة لعدم وضوح الرؤية و التخبط في اتخاذ القرارات وقال إن انتشار هذه الرؤية يعتبر مؤشرا خطيرا، ودعا لضرورة وضع خطة واضحة فيما يخص السياسات الاقتصادية وأوضح أن عدم وجود حكومة أدى إلى حدوث مثل هذه التشوهات.
