شهد السودان في تسعينيات القرن الماضي زمن عزلة دولية خانقة، تحوّلت خلالها الخرطوم إلى ملجأ لشبكات إيديولوجية متطرفة تحت حكم نظام الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني، فغرقت البلاد في عقوبات وحصار دولي أضرّ بالاقتصاد وبالحقوق والحريات وأخرجها من مسار التنمية لعقود. ما بدا آنذاك انحرافًا سياسياً انتهى به المطاف إلى نموذج دولة خارجة عن القانون، تعمل على تصدير أيديولوجيا مُدلَّجة وتنسف القواسم الوطنية.
اليوم، ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023 وانكشاف ممارسات النظام القديم، تعود وجوه ذلك الماضي لتقترب مجدداً من مراكز القرار، لكن هذه المرّة عبر بوابة سلطة عسكرية غير شرعية بقيادة عبد الفتاح البرهان. القبضة ازدادت عسكرية والتحالفات تغيرت؛ تحالفات ظلت تُعيد إنتاج نفس العقلية التي أدت إلى عزلة البلاد سابقاً، وتستغل حالة التفكك المؤسسي والصراع على المناصب لتثبيت نفوذها، بدلاً من السعي إلى تسوية سياسية تضع مصلحة المواطن أولاً.
في السياق الدولي، لم يكن رد الفعل غائباً: في 26 يونيو دخلت حزمة عقوبات أمريكية حيّز التنفيذ، رسالة تحذيرية واضحة مفادها أن استخدام الأسلحة المحظورة والنأي عن المساءلة سيجرّ عزلًا أوسع ينفذ أثره اقتصادياً وسياسياً. هذا التوقيت لا يبدو عشوائياً، بل انعكاس لتراكمات الأدلة الدولية والقلق من تحول الأزمة السودانية إلى تهديد أوسع للأمن الإقليمي، خاصة في ظل اتساع شبكة علاقات بعض الأطراف مع قوى إقليمية مستعدة لاستثمار الفراغ في الخرطوم.
السيناريوهات المتوقعة قاتمة: حظر تمويل دولي، إغلاق باب القروض من مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد، تقليص التمثيل الدبلوماسي أو حتى إغلاق بعثات كاملة. أما الأشدّ فتكاً فهو احتمال تصعيد عسكري خارجي في حال تضخّم وجود قوى إقليمية مسلحة على أراضي السودان أو تحوّل البلاد إلى منطلق لعمليات تهدد مصالح دول إقليمية. وفي حال توثيق استخدام أسلحة محرّمة، فإن قرار منظمة دولية واحداً يكفي لفتح الباب أمام عقوبات أممية أشد وعزل شامل يعمّق جرح البلاد.
لكن ثمن هذه العقوبات لن يقتصر على السلطة وحدها، بل سيمسّ السكان عموماً. السودان اليوم ينهار مؤسسياً: مؤسسات الدولة متهالكة، الاقتصاد مفلس، ملايين النازحين والمشرّدين يعانون؛ وإعادة إنتاج وجوه النظام القديم تحت غطاء الحرب يمثل إدانة نكراء لثورة شعبية أنزلت هؤلاء عن منابرهم في ديسمبر. عودة تلك الوجوه لن تعيد السودان إلى مجد ماضٍ منسوب، بل ستعزّز دوامة الفشل وتزيد من معاناة الناس.
في المقابل، تلعب قوى دولية بمنطقين متعاكسين: على الجانب الأمريكي ضغط عقوبات ودبلوماسية، وعلى مستوى آخر احتمالات تصعيد عسكري تركّز على منع تمدد أمني يهدد خطوط الملاحة والمصالح الحيوية. ومع تقاطعات النفوذ الإقليمي، قد يصبح السودان ساحة اختبار لسياسات قوى كبرى، فيما يدفع الشعب الثمن الأكبر.
الواقع المؤلم أن السودان لن ينهض إلا بخارطة طريق جديدة وواضحة تقوم على إرجاع السلطة إلى المدنيين، تفكيك شبكات الفساد، ومحاسبة من أخطأ. لا خلاص عبر تحالفات ظرفية أو عبر إعادة تدوير وجوه حكم رفضها الشارع، ولا خلاص أيضاً عبر منطق الإقصاء أو الهيمنة الطائفية. المطلوب مشروع وطني شامل يبني مؤسسات قوية، يحمي الحريات، ويعيد للدولة سيادتها دون تبعية إقليمية أو عبء أجنبي.
القرار أمام السودانيين واضح ومصيري: إما استعادة دولة مدنية ديمقراطية تُعلي مصلحة الناس، أو الانزلاق نهائياً إلى مزيد من العزلة والفوضى. الزمن لا ينتظر، والبلد لا يحتمل مزيداً من العبث.